حملت روسيا بذكريات طفولتها وأغانيها الشعبية، وروايات أدبائها العظام وحكايات الأجداد في روحها ووجدانها وبين ضلوعها، لتؤنسها في رحلة استمرت ما يزيد عن 9 عقود، ما بين مكابدة الحنين الجارف إلى الوطن وقسوة الهجرة.
طوال عقود رفرفت الراية الحمراء على تخوم وطنها، سالبة إياها هويتها وأبسط حقوقها في الانتماء، والتي استبدلت بوثيقة لجوء تختزل الفرد في تذكرة مختومة من إدارة الحماية الفرنسية، أو الهيئات الدولية، بلا هوية وتاريخ، أو جنسية أو جذور.
بين فيافي غُربتِها التي قذفت بها صحبة 6 آلاف من مواطنيها قبل 100 عام من البحر الأسود إلى سواحل الشمال التونسي بالمتوسط، اختزلت فكرة الوطن على ظهر السفينة الحربية التي أبحرت في رحلة “اللاعودة”.
وطن تسحتضره صبية روسية لم تتجاوز السابعة، بعضًا مما خزنته في ذاكرتها البسيطة من صوره، قبيل رحلة الهروب من قوات الثورة التي أعلنت النفير على إرث القيصرية في كامل أنحاء روسيا.
بنزرت الوطن الذاكرة
كانت بنزرت المحطة الأولى والأخيرة لأنستازيا شيرنسكي، فهنا طوت أشرعتها لتؤسس بين أبناء جاليتها ورفاق الدرب والرحلة من الغربة وطنًا يحملونه في لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقصصهم.
تحولت أنستازيا إلى جزءٍ من روح بنزرت، يمتزج عبرها تاريخ تونس بإرث روسيا العظيم، وشكّلت خلاله شخصية أستاذة الرياضيات جسرًا حضاريًا وإنسانيًا ممتدًا من البلطيق إلى المتوسط، مفعما بالتنوع والذكريات، وليجعل من المدينة عاصمة فسيفساء بشرية متنوعة من الأديان والأعراق والثقافات.
يصفها البعض بأنها الشاهد الأخير على حقبة اللجوء الروسي إلى بنزرت، فيما يجمع أبناء عاصمة الجلاء على اعتبارها ذاكرة المدينة، وأحد رموز تاريخها المعاصر، والأستاذة التي تخرّج من بين أيديها أجيال من الكفاءات والعقول التونسية بمن فيهم أحد الكوادر الدبلوماسية، الذي شغل لاحقًا منصب سفير تونس بموسكو.
من ذكريات الرحيل البعيد
في ليلة بادرة عند ميناء سيفاستوبل الروسي سنة 1920، ألقت أنستازيا شيرانسكي من على متن الباخرة الحربية “قسطنطين” – نظرة وداع أخيرة تغذيها آمال بالعودة في رحلة قدر لها أن تتحقق بعد أكثر من 80 سنة.
“لن أنسى ما حييت ذلك الصباح الباكر يوم 23 ديسمبر 1920، لما ولجت بنا السفينة طرف ميناء مدينة بنزرت، الذي كان جزء منه مازال متضررًا من جراء القصف الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى، أحسست بحنان الطبيعة فقد كان البحر هادئا والشمس كانت متدفقة والهدوء يحف بالميناء، كان يوما عذبًا لا ينسى”، هكذا تحدَّثتْ أنستازيا عن ذكريات اللقاء الأول مع سواحل المدينة، لتبدأ معها أولى فصول الرحلة التي استمرت إلى حين احتضن فيه تراب بنزرت جسدها إلى الأبد سنة 2009.
رحلة صعبة في تقلّباتها كمثل الأنواء التي عصفت بالهاربين في البحر من سيفاستوبل، فلم يكن على آلاف من أفراد البحرية الروسية وضباطها وقيادات جيش القيصر المنحدرين من أصول ارستقراطية، سوى التنازل عن الزي الرسمي المرصع بالنياشين، للبحث عن عمل والوقوف في طوابير أمام مقرات الهيئات الإنسانية التي تدفقت على بنزرت لتقديم بعض المعونات القليلة.
هي “ذاكرة مزدحمة بذكريات كثيفة”، كما تصف نفسها لكن محورها الأساسي ارتبط بعروس الشمال التونسي، التي اقتسمت تاريخها وكل المحطات التي عايشتها مع أناستازيا.
“عشت الأهوال أثناء الحرب العالمية الثانية، وشاهدت المعارك الضارية بين التونسيّين والجيش الفرنسي خلال معركة الجلاء”، تضيف في مذكراتها “وأعرف دروبها وشوارعها وأغلب سكانها، حتى صرت أشعر أني أقدم من بعض معالمها”.
عندما قدّر لأنستازيا أن تستعيد ذاكراتها السليبة ووطنها المفقود، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، اكتشفت أن أقدارها ارتبطت ببنزرت إلى الأبد، لتكتفي بزيارات خاطفة لروسيا، مختارة البقاء على هذه الأرض لتحفظ ذكرى من رحلوا حاملين أشواقهم وحنينهم إلى روسيا للأبد.