كانت ليلة عظيمة في تاريخ الرياضة، لم تكن كباقي الليالي. كل شي فيها كان مميزًا، مكانها وصخبها وجمهورها، ما سبقها من أحداث وما عقبها. إنها ليلة نزال الأدغال أو نزال القرن وسط إفريقيا. تلك الليلة التي شهدت أعظم نزال ملاكمة في التاريخ بين الأمريكيين محمد علي كلاي وجورج فورمان في عاصمة الزايير (الكونغو الديمقراطية حاليًا).
الملاكمة من أجل السود
ولد محمد علي كلاي في 17 كانون الثاني/يناير من العام 1942، بولاية كنتاكي الأمريكية وكان اسمه كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور من عائلة إفريقية أمريكية.
نشأ طفلا سويًا، لكن مجتمع العنصرية جعل منه شخصًا غير عادي. شاهد محمد علي جريمة سنة 1955 ذهب ضحيتها الطفل إيميت تيل ابن الـ14 عامًا، على يد رجلين من البيض، برأتهما المحكمة لعدم توفر الأدلة.
آلم ذلك المشهد الشاب الأمريكي وضمّه إلى ألبوم أحزانه ومضايقاته اليومية في المدرسة والشارع وفي كل مكان. ما فعلته العنصرية بمحمد علي كلاي لا يحتمل، فقد دوّن في كتاب سيرته أنه “رمى ميداليته الذهبية الوحيدة بعد أولمبياد روما عام 1960، في النهر لأنه حُرم من تناول الطعام في مطعم للبيض، رغم أنه أهدى بلاده الذهب الأولمبي”.
اشتدت نقمة كلاي ضد المجتمع الذي نبذه فقرّر إثبات وجوده بقبضة يده. تعلم الملاكمة وصعد على الحلبة وحقق الانتصارات. اكتسب الثقة في نفسه وشجعه مدربوه، فأصبح بطلا في ولايته ثم في بلاده كلها، ثم بطلاً أولمبيًا، وعالميا في عمر الـ22 فقط.
في عنفوان مسيرته وجد محمد علي كلاي نفسه أمام ضرورة الامتثال للتجنيد في حرب الفيتنام في أواخر الستينيات، لكنه رفض.
دخل السجن وحرم من الملاكمة طيلة خمس سنوات وسُحب منه لقب بطل العالم. عندها قال الجميع إن كلاي انتهى وأضحى صفحة من الماضي، في الأثناء كان الشاب البطل يفكر في بداية جديدة ستكتب تاريخًا آخر للملاكمة، وهدفه دائمًا النزال من أجل العدالة ونبذ الظلم.
نزال القرن
خرج محمد علي كلاي من السجن ضعيفا في نظر الآخرين عمره 31 عامًا، لقد فاته القطار وولى عهده بالقفازات والحلبة. لكن رأيه كان مغايرًا.. بدأ من جديد ومن سوء حظه أنه تلقى ضربة قاضية من جو فريزر في منافسة على بطولة العالم .
من سيلاقي كلاي حتى يثبت للعالم أنه لم يمت وأنه الأفضل، وحتى يواصل رحلة الدفاع عن مبادئه؟ رفع محمد علي كلاي التحدي وأعلن رغبته في نزال العملاق بطل العالم جورج فورمان، الذي لم ينهزم قبل تحدي كلاي (37 انتصارا من مجموع 40 حسمها بالضربة القاضية). كان ضربا من الجنون من قبل كلاي صاحب 31 عامًا أن يتحدى شابًا يافعا وقويا يصغره بثماني سنوات أو أكثر.
رفع كلاي التحدي أيضا بأن طلب إجراء النزال في دولة الزايير في إفريقيا، أراد نزالا بين الفقراء من أبناء بشرته. أصر واستفز فورمان عندما رفض اللعب في إفريقيا، لكن في الأخير قبل التحدي. الإعداد للنزال تقنيا ولوجستيًا وإعلاميًا تطلّب عدة أشهر. قضى محمد علي شهرين في الزايير يحشد الجماهير يلقنهم دروسا في الدفاع عن أنفسهم وفي الفخر بهويتهم. بلّغ أصواتهم ودافع عنهم فكسب ودّهم وتشجيعهم له قبل النزال المرتقب. تجوّل في مدن الزايير والتقطت له صورة تاريخية وهو يُخرج رأسه من نافذة حافلة ليسمع الجماهير وهي تهتف “علي… أقتله”، في إشارة إلى خصمه فورمان.
لم تكن الزايير في ذلك الوقت تتوفر فيها حلبة ملاكمة محترفة، فانتقل النزال إلى ملعب كرة قدم في الغابة. حدّد تاريخ 30 أكتوبر/تشرين الأول عام 1974 لإجراء النزال، فاشرأبّت أعناق الجميع إلى وجهة لم يألفوها سابقًا، فرض عليهم محمد علي كلاي متابعة أعظم نزال في رياضة، هي الأكثر شعبية في العالم حينذاك.
كان الجميع ينتظر نهاية سريعة لكلاي على يد الأسطورة فورمان، فقد حذره الصحفيون والجمهور، لكنه صعد على الحلبة أمام 60 ألف مشجّع في الملعب ومئات الملايين خلف شاشات التلفاز.
بدا كلاي مجنونا وهو يستند إلى حبال الحلبة ويحتمي بقفازاته يستقبل اللكمات من منافسه طيلة 5 جولات. لكنها كانت خطة محكمة، نفذها في الجولة السادسة بعد أن نال الإرهاق من منافسه العملاق وسط صرخات الجمهور الكونغولي “علي..أقتله”، حتى حلت الجولة الثامنة وانهال محمد علي كلاي على منافسه بلكمة مباشرة أسقطته فوق الحلبة، وُصفت بالقبضة الأقوى في تاريخ الملاكمة.
بدأ قاضي النزال الحكم الدولي التونسي الراحل نور الدين عدالة بالعد: واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة… لم ينهض بطل العالم وتخلى عن لقبه لكلاي الأسطورة. كانت تلك المرة الأولى التي ينهزم فيها فورمان، لم يصدق أحد ما حدث… يستحضر كل من شهد تلك الليلة هستيريا المعلق التلفزيوني عن النزال وهو يُعلن نهاية المعركة بهزيمة فورمان.
كانت تلك الليلة بمثابة حلم كبير حققه كلاي من أجل المضطهدين والمظلومين. صرّح المتحدث باسم الحكومة الكونغولية آنذاك لامبرت مندي وقال عن كلاي “إنه الشخص الذي ساعد في جعل بلادنا مرئية في سبعينات القرن الماضي”.
لن تنسى إفريقيا جميل ذلك الرجل المقاتل الذي نذر حياته للملاكمة من أجل هدف أسمى من الفوز. بعد النزال صرح كلاي بكلام مزلزل وقال: “أنا أمثل كل السود من أهل الزايير وغيرهم ممن ظُلموا بسبب لونهم، وأنا أحد المسلمين الذين ظلموا بسبب دينهم، معركتي الأهم لم تكن الملاكمة ولا الفوز بلقب بطل العالم، معركتي الأكبر كانت ضد الظلم ومن أجل فرض المساواة والعدل”.
واصل محمد علي كلاي رحلته ورسالته النبيلة فوق الحلبة وخارجها لسنوات طويلة، حتى أصبح بطلا قوميًا وأسطورة عالمية، كتبت تاريخًا لرياضة الملاكمة عبر نزال صنّف من أشهر الأحداث الرياضية في القرن العشرين ولا شك أنه سيبقى لسنوات كذلك، تحت مسميات نزال الغابة ونزال القرن ومعركة الأدغال.
أفلام سينمائية جسدت قصة حياة البطل الأسطوري والقيم النبيلة التي دافع عنها بقبضة يده، حتى وفاته سنة 2016 متأثرًا بالمرض.
من هو التونسي حكم النزال؟
ارتبط الحديث لدى الجمهور التونسي عن نزال القرن بالعاصمة كينشاسا وبالضربة القاضية لمحمد علي كلاي وهزيمة فورمان، لكن كثيرين لا يعرفون أن قاضي تلك الليلة التاريخية الصاخبة، كان الحكم الدولي التونسي الشهير نور الدين عدالة. عدالة هو من أمهر الحكّام في عالم الملاكمة والدليل على ذلك منحه شرف إدارة نزال القرن بين الأسطورتين.
هو شهير في العالم ونكرة في بلاده، حكم عشرات النزالات في إفريقيا والعالم وفي الأولمبياد. ورغم أنه ينتمي إلى الاتحاد الدولي لملاكمة الهواة، فإنه فرض نفسه ليكون قاض في نزالات المحترفين وكان شاهدا على إحدى أعظم اللحظات الرياضية في التاريخ.
نال نور الدين عدالة التكريم من الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وكرمته اللجنة الأولمبية في خمسينيتها، ومع ذلك لم يلق إجلالا وتقديرا يليق بمكانته كأحد أبطال سهرة كينشاسا ذات أكتوبر عام 1974.